ماذا يعني كلبًا (أو حيوانًا أليف) بالنسبة لصاحبه؟ قد يراودك كما راودني هذا السؤال عند قرار مشاهدة فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» في قاعة السينما، لكن الإجابة كانت مختلفة، وهو ماذا تعني الحياة في بلد، يدفع مواطن 125 جنيهًا، ليشاهد قصة شاب لديه مشكلة مع زيادة جنيهان في ثمن بنزين دراجته النارية؟
هذا هو العمل الثالث الذي يحصل فيه الممثل الشاب عصام عمر على بطولة مطلقة، بعد مسلسله الناجح «بالطو» ومسلسل «مسار إجباري» الذي تقاسم بطولته مع ممثل شاب آخر هو أحمد داش، لكن الأخير صعد للبطولة على أكتاف شهرته منذ كان ممثلًا طفلًا.
في مشاركته الأولى تحت الأضواء في مهرجان، وتحديدًا مهرجان القاهرة للدراما في أغسطس 2023، ليحصل على جائزة لجنة التحكيم كأفضل ممثل صاعد في مسلسل «بالطو»، قال عمر إن إطلالته تكونت من بدلة اشتراها قديمًا من منطقة محطة الرمل بالإسكندرية وهي منطقة محلات بدلات متواضعة في أغلبها، أما الجزمة فقد اشتراها من «عم زغلول» بالدقي، والكرافتة من «سعيد صاحبه» والشراب قديم لديه.
هذه التجميعة ارتداها موهبة كبيرة مع شخصية بسيطة توفرت لها قوة حضور، وفرت عدم حصوله بعد على ما يكفي من النجومية اللائقة مع كل هذه الصفات القوية، وكانت ذاتها الخلطة التي دفعت نحو ترشيحه لبطولة هذا العمل، الذي نتوقع أن يملأ هذا الممثل الفراغ الذي تركه عمالقة السينما المصرية التي عبرت لعقود عن الشارع العادي والطبقات الأفقر، التي بطلها هو شاب يعمل فرد أمن براتب هزيل لا يخبرنا به صناع الفيلم ولكننا نستطيع التوقع بأنه لا يتخطى نصف الحد الأدنى للأجور، يجعل وجبته الرئيسية عبارة عن أرز وحده، أو كجزء من نشويات أخرى مع رفاهية الصلصة والثوم تحديدًا الكشري.
بطولة عمل يوفر لأبناء الطبقة المتوسطة بفرعيها العلوي والسفلي ما يدور بالقرب من بيتهم، لمعايشة ظروف وتفاصيل حياتهم التي تعتمد على ثلاثة آلاف جنيه، التي يعرفون أنها صعبة بقدر الأزمة الاقتصادية، لكنهم لا يعرفون كيف تكون.
لا يحمل الفيلم أي حمولة سياسية مباشرة تذكر غير ما أقحمه المخرج، في تعليق فتحي (عم حسن) لصورة إعلان توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، ليترك لنا رسائل لعل منها أنه منبطح مثلًا أو نحو ذلك، غير أن الفيلم يعبر في كل لحظة فيه عن التردي السياسي خلال نحو 30 عامًا.
يبدأ الفيلم بصراع بين شاب بسيط مسالم قليل الحيلة فقد الأب في ظروف غامضة، أمام وريث شقتهم البسيطة التي يعيشون فيها على الكفاف وقد تحول إلى أشبه ببلطجي لكن البلطجة هنا ليست عملًا ولكنها أداة للدفاع عن مصالحه، ينتهي بدفاع السيد رامبو كلب البطل البلدي والوفي، والذي يهاجمه من منطقة حساسة.
هذه المنطقة الحساسة هي محور المشهد لأنها ليست حساسة بالنسبة لصاحبها فقط، لكنها حساسية مجتمع بأكمله، والتي تعرف باسم «الذكورة الجريحة» كمصطلح شارح لنتيجة ما يفعله النظام الأبوي أو بمعنى أصح سيادة الذكر القوي.
تتحول هذه الذكورة الجريحة من أساس لمشكلات المجتمع من قاعدته حتى رأس السلطة فيه، إلى تركة يجب أن تورث كأول أساسيات غريزة البقاء في هذا المجتمع، بأخذ الحق أو للدقة المصالح عنوة بالنسبة لكل صاحب سلطة كبرت أو صغرت وصل إليها على استفحال هذا السلوك.
يجعل هذا المجتمع يعيش على بركة من الاستغلال بداية من استغلال فقر هؤلاء وحاجتهم إلى نهاية الأزمات المرورية التي تضيف خنقة على خنقتهم لبناء كوبري في منتصف شارع عرضه لا يتخطى 10 مترات، أو بناء طرق في الصحراء لا يرتاده ثلاثة مركبات مجتمعة، أو وضع عامل البنزينة وقود بجنيهين زيادة عن طلب حسن بـ35 جنيهًا فقط ليأخذ باقي الأربعين بقشيش، وحتى عند البحث عن منفذ للكلب المطارد يدخلنا إلى عالم إضافي من استغلال الحيوانات نفسها.
لذا فإن جرح الذكورة المادي ذكّر كارم بالتركة المعنوية الثقيلة والتي تكشف له أنها غير كافية لاستمرار التسلط، ما يدفعه لمحاولة الانتقام من كلب وهو على تفاهته تفهمه جميع أعضاء المجتمع في مشهد على غرابته أصبح مفهومًا الآن.
هذا ليس العمل الأول الذي يشارك البطل رحلته حيوان واحد أو أكثر، رأيناها في «القرداتي» مثلًا أو «أربعة في مهمة رسمية» التي جمعت البطل بحيواناته الثلاث، وهذا ليس الفيلم الأول الذي يعرض علاقة مواطن مصري بحيوانه الأليف، لعل أبرزها مثلًا أن مشردًا وهو أحد أبطال فيلم «اشتباك» خرج في مظاهرات ضد حكم الإخوان لأنه يرى أنهم تسببوا في موت كلبه البلدي.
لكن الجديد هنا أن الفيلم يدور حول محاولة إنقاذ السيد رامبو الكلب، وهو ما دفع كثيرين من أفراد مجتمع البطل لسؤاله عن مدى تمسكه بهذا الكلب تحديدًا، نظرًا لأن كلاب الشوارع المجانية لا يوجد ما هو أكثر منها.
قد يكون لكلامهم وجاهة عند المقارنة بين تشريد أسرة وإيذائهم أو إيذاء كلب، لكن الأزمة أنها لم تكن تلك المقارنة لأن السؤال المفترض منطقيته لما مبدأ الإيذاء نفسه؟ ولما تحديدًا ضد كلب لا عقل له سوى صفة الوفاء لصاحبه؟ وعند السؤال وهل إيذاء الكلب ليس فيه إيذاءً لأسرة؟
الإجابة هي الأنانية أولًا؟ لا يفكر أيًا منهم فيما يعنيه الكلب لصاحبه، ولكنه يفكر فيما يعنيه له هو، ماذا عن الإجابة الأعمق؟ استقرار المجتمع؟ بالتأكيد يفكر الجميع في عدم حصول مشكلات ليس كراهية في المشاكل لأن قتل كلب وإهدار دمه على الأرض هو مشكلة بحد ذاتها، ولكن الفكرة هنا هو استقرار الصراع بين أفراد المجتمع وهدوءه، حتى لا يضطر أن يقف الجميع على أقل تقدير أمام احتمالية التغيير، يجب أن تسير الأمور كما سارت في 30 أو 50 أو حتى 100 سنة، لا يهم، المهم أن تظل لأن هذا ما عرفناه حد التوريث.
اختار الفيلم هذه الأغنية القديمة للفنان محمد منير لتكون أغنيته الرئيسية، وهي ضمن ألبوم شبابيك» الصادر في بداية الثمانينيات، والتي اختلط فيها الشخصي بالعام، والعاطفي بالعقلاني، يغنيها والد البطل الذي لا نعرفه ضمن مجموعة ذكريات أخيرة مسجلة له مع والده، سواء في غنائه له، أو احتفاله بعيد ميلاده الخامس بأكلة كباب وكفتة مثل أي أسرة مصرية متوسطة سنة 98.
للمفارقة التي يبدو أنها مقصودة فكان عمر الكلب مع البطل خمس سنوات، وربما هنا تحديدًا يفهم لما تعلق البطل بكلبه كل هذا التعلق، وهنا تحديدًا يعيد البطل رؤية حاضره كنتيجة لماضيه.
ولأن شجر الليمون الآن «دبلان على أرضه» نتيجة لما حدث لما هو شخصي وعام طوال 27 سنة تحديدًا، فكيف ستكون نتيجة هذه النتيجة بعد 27 سنة أخرى؟